18/04/2022
مع اتِّساع رقعة حرائق الغابات واستعارها وقتًا أطول من العام، يسعى العلماء سعيًا حثيثًا إلى دراسة آثارها الممتدة على صحة الإنسان.
ماكس كوزلوف – نيتشر في صبيحة يوم بارد الطقس من شهر سبتمبر الماضي، حمَّل فريق من رجال الإطفاء في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية عربَة نقل ذات لون أحمر فاتح بعُدّتهم وعتادهم. كان الهواء قد عبق برائحة صمغ صنوبر شديدة العذوبة قادمة من مصدر وهج بعيد، في الوقت الذي أخذوا فيه يتأهبون لبدء مكافحة حريق ديكسي الذي راح يتَّسع إلى حد أوشك معه أن يصبح حريق الغابات الأكبر في تاريخ ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وقد اجتاحت النيران جبال سييرا نيفادا، لتحرق ما يزيد على 3900 كيلومتر مربع منها، قبل أن يتمكَّن طاقم الإطفاء من إحكام سيطرته عليها، أواخر شهر أكتوبر الماضي.
لكنَّ طاقم الإطفاء كان عليه التوقف في محطة أخرى قبل أن يلحق بآلاف من الأشخاص الآخرين الذين سعوا إلى السيطرة على ألسنة اللهب. آنذاك، كانت ماري برونيكي وفريق من الباحثين يشغلون حجرة دراسية صغيرة داخل مبنى تدريب إدارة مكافحة الحرائق في حي ميشن بمدينة سان فرانسيسكو، حيث أجروا استبيانًا لأفراد طاقم مكافحة الحرائق وجمعوا عينات دم منهم.
برونيكي، الباحثة المتخصصة في دراسة الملوثات البيولوجية من جامعة ستانفورد القريبة من موقع الحريق، سعت إلى استخدام هذه العينات كأساس لدراستها، لتقارنها بتلك التي ستأخذها من أفراد الطاقم لدى عودتهم، بحثًا عن أي علامات تعكس ردة فعل أجسامهم للدخان، بما في ذلك الالتهابات والتغيرات التي قد تطرأ على وظائف القلب والجهاز المناعي.
إذ يعدُّ الدخان المنبعث من حرائق الغابات السبب في وفاة ما يتراوح بين عشرات ومئات الآلاف من البشر على مستوى العالم سنويًا. وبرونيكي واحدة من مئات الباحثات والباحثين الذين يسعون إلى فهم الآثار الصحية الناجمة عن التعرض لدخان الحرائق، وكشف السمات التي تميِّز الدخان المنبعث من حرائق الغابات، والتي تجعل منه الملوِّث الأكثر ضررًا على الإنسان بين مصادر التلوث الأخرى. ولهذا، يدرس الفريق البحثي الآثار قصيرة المدى وطويلة المدى لهذا النوع من التلوث، ويحاول تحديد الأشخاص الأكثر عُرضة للتأثر سلبًا بالعناصر الملوثِة، والطُرق المُثلى للحفاظ على سلامة وصحة الأشخاص الذين تطالهم سحب الدخان التي قد تمتدُّ لآلاف الكيلومترات من بقاع الحرائق المستعرة، مثل حريق ديكسي.
وقد اكتسبت هذه الأبحاث أهمية مُلحّة خلال السنوات القليلة الماضية، إذ أدَّى التغير المناخي العالمي إلى تفاقم موجات الجفاف وارتفاع درجة الحرارة في جميع أنحاء العالم، ليتضاعف بذلك إجمالي مساحة المناطق المغطاة بالنباتات الجافة والتي قد تشب فيها الحرائق في لحظة ما بفعل شرارة صغيرة، فتستحيل لجحيم. وهذه الظاهرة أدَّت بدورها إلى تزايد معدلات اندلاع حرائق الغابات واتساع رقعتها وشدتها في أنحاء العالم كافة، كما أن مواسم الحرائق
باتت أطول. وقد اجتاحت حرائق الغابات المناطق الواقعة غربي الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، لكن الفترة ذاتها شهدت أيضًا اندلاع أسوأ حرائق الغابات على مرِّ الأجيال في بعض الدول الأخرى. على سبيل المثال، اندلعت هذا العام الحرائق في منطقة سيبيريا الروسية لتدمر مساحة تربو على إجمالي مساحة الحرائق على مستوى العالم في العام نفسه. ولا تزال أستراليا ترزح تحت وطأة تبعات موسم حرائق الفترة بين عامي 2019 و2020، والذي بات يُعرَف على نحو شائع باسم "الصيف الأسود"، إذ نجم عنه تدمير آلاف المنازل ومصرع ثلاثين شخصًا على الأقل، إلى جانب نفوق مئات ملايين الحيوانات.
بخصوص ذلك، يقول سام هيفت-نيل، اختصاصي علم الاقتصاد البيئي من جامعة ستانفورد، والذي يدرس المخاطر الصحية الناجمة عن حرائق الغابات: "لو أننا قارنَّا الأعوام الخمسة الماضية بالأعوام العشرة أو الخمسة عشر التي سبقتها، فسوف ندرك الفارق الشاسع بين الفترتين" مضيفًا: "سنكون تقريبًا أمام نمط حرائق مختلف تمام الاختلاف".
مزيج سام
يحتوي الدخان المنبعث من حرائق الغابات على عشرات الجسيمات المختلفة كالسناج ومواد كيميائية، مثل أول أكسيد الكربون، بيد أن بعضًا من الجسيمات الدقيقة التي لا يتجاوز عرضها 2.5 ميكرومتر (ما يعادل سمكًا يبلغ نحو 1/40 من سُمك شعرة رأس الإنسان في المتوسط) يُعدّ من أكثر ما يُثير قلقَ العلماء المعنيين بجودة الهواء. ويُتوقَّع أن يتعرَّض رجال الإطفاء الذين يتعاونون مع برونيكي لكميات هائلة من هذه الجسيمات الدقيقة المعروفة باسم PM2.5. في هذا السياق، ترى فرانشيسكا دومينيتشي، اختصاصية الإحصاء الحيوي من كلية تي إتش تشان للصحة العامة التابعة لجامعة هارفارد بمدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية، أن أي كمية من تلك الجسيمات الدقيقة تُشكِّل خطرًا حال تنفّسها مهما بلغ صغر حجمها، لأن لديها القدرة على التغلغل في أدق شقوق الرئة ومن ثمَّ السريان في مجرى الدم (انظر الجزء المُعنوَن «مخاطر التعرّض لأدخنة الحرائق»).
أما فاي جونستون، اختصاصية علم الأوبئة البيئي من جامعة تسمانيا في مدينة هوبارت الأسترالية، فتقول إنه عند دخول الدخان إلى المسالك التنفسية، تكون ردّة فعل الجسم "مشابهة لما يحدث عند التعرض للجراثيم والعدوى"، وتصاحب ذلك مجموعة كبيرة من التغيرات الفسيولوجية، إذ ترتفع مستويات هرمون الكورتيزول والجلوكوز ارتفاعًا كبيرًا في الدم، وهو ما يؤدي بدوره لاضطراب نظم القلب، ويُعزِّز احتمالية تجلّط الدم. كذلك تحدث التهابات في بطانة الرئتين، وهو ما يُسبّب صعوبة التنفس لدى المصاب.
وتأمل برونيكي في فهم طبيعة هذه التغيرات الفسيولوجية بقياس مستويات مؤشرات حيوية معينة، تتمثل في بعض الجزيئات الموجودة في الدم والتي يمكن أن تُعطينا لمحة عن أداء وظائف الجهاز المناعي والجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية. وقد عمدت برونيكي إلى إجراء الدراسة على رجال الإطفاء لأنَّهم يتعرَّضون لكميات كبيرة من الدخان بحُكم مخاطر وظيفتهم، كما هدفت إلى التحقق مما إذا كان بإمكانها رصد أي تغيرات تطرأ على مؤشراتهم الحيوية بعد تعرّضهم المباشر للدخان، وما إذا كانت تلك التغيرات طويلة المدى، أم أنها تشبه تلك التي تُلَاحَظ لدى الأشخاص الذين يتعرَّضون للدخان ممن لا يعملون في مجال مكافحة الحرائق.
فقد تصل مستويات جسيمات PM2.5 بالقرب من مناطق استعار الحرائق إلى مستويات تزيد بمقادر 15 ضعفًا عن الحد الأقصى المعياري الذي حدَّدته وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) لمستويات التعرّض المسموح بها لهذه الجسيمات، والبالغ 35 ميكروجرامًا في الأربع وعشرين ساعة. لكن برونيكي تقول إن كثيرًا من رجال الإطفاء لا يرتدون أقنعة التنفس في أثناء مكافحة الحرائق لأنها قد تعوقهم عن العمل. وتقول دومينيتشي إن "هذه المستويات مُرتفعة للغاية"، مضيفة: "عند الوصول إلى هذا المستوى، نُصبح كمن يتنفس حساءً سامًا".
وتضيف دومينيتشي أيضًا أنه حتى المستويات المنخفضة لجسيمات PM2.5 تُشكِّل خطرًا شديدًا على الصحة لأن الأفراد في مثل هذه الظروف تقل احتمالية إدراكهم ضرورة اتّخاذ إجراءات وقائية مثل ارتداء أقنعة التنفس. وقد أوضحتْ الدراسات التي أجرتها برونيكي العلاقة بين التعرّض للدخان، وحدوث عديد من التغيرات في المؤشرات الحيوية، قد تدل على اختلال الجهاز المناعي ووظائف القلب والأوعية الدموية1 حتى لو كانت المسافة التي تفصل الشخص عن المكان الذي تستعر فيه الحرائق تزيد على 100 كيلومتر.
وترى دومينيتشي أن آثار حرائق الغابات تمتد لتطال نواحي أخرى، فقد يُعزِّز الدخان احتمالية إصابة الأشخاص بالأمراض المُعدية أو يؤدي إلى تفاقم أعراض الأمراض التنفسية لدى المصابين بها، بما في ذلك مرض «كوفيد-19» COVID-19 والإنفلونزا. من هنا، تعتقد دومينيتشي وفريقها البحثي بوجود ارتباط بين ارتفاع مستويات جسيمات PM2.5 خلال موسم الحرائق الذي شهده عام 2020 في ولايات واشنطن وكاليفورنيا وأوريجون من جهة، وتزايد عدد حالات الإصابة بـ«كوفيد-19» بنحو 19,700 حالة وتنامي عدد الوفيات جراءه بمقدار 750 حالة وفاة2، من جهة أخرى.
ومن أبرز الفرضيات التي تُفسِّر تزايد عدد هذه الحالات أن جسيمات PM2.5 تُضعف الجهاز المناعي، وتتسبب في حدوث التهابات، وهو ما قد يجعل بعض الأفراد أكثر عُرضة للإصابة بالعدوى أو يُسبب تفاقم آثار المرض. وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع معدلات حدوث هذه العدوى. وتضيف دومينيتشي أن ثمة تفسيرًا آخر، ولكنه لا يزال مثار جدل، وهو أن بعض الفيروسات التنفسية تنتقل على ظهر جسيمات PM2.5 الدقيقة، لدى الدخول في أنسجة الرئة.
في هذا السياق، تعقِّب جونستون قائلة إن المشكلات الصحية التي يعاني منها بعض الأشخاص بالفعل تُمثِّل تحدِّيًا آخرًا، لا سيّما حال تعرّض ملايين البشر لتأثيرات الدخان في الوقت نفسه، كما حدث في حرائق أستراليا خلال «الصيف الأسود». فقد أفاد فريقها البحثي بأن هذه الحرائق أدَّت إلى آلاف إضافية من عدد الحالات التي خضعت للعلاج في المستشفيات، كما تسببت في المئات من حالات الوفاة جرَّاء الإصابة بالمشكلات القلبية والتنفسية الناجمة عن التعرض للدخان، الذي خيم على ما يقرب من 80% من سكان البلد3.
وقد أوضحت البيانات أن أعداد مَنْ أودعوا المستشفيات جرَّاء إصابتهم بمشكلات القلب والأوعية الدموية والمشكلات التنفسية ومضاعفات مرض السكري، قد تزايدت خلال الأيام التي ارتفعت فيها معدلات الدخان في الهواء، خاصة بين الأطفال وكبار السن. كما قد تصبح الحوامل أكثر عُرضة لخطر الإصابة بسكري الحمل، أو ارتفاع ضغط الدم أو انخفاض وزن المولود. فوق ذلك، وفقًا لتقديرات الأبحاث التي أجراها هيفت-نيل، فزيادة أعداد حالات الولادة المبكرة في ولاية كاليفورنيا بين عامي 2007 و2012 بنحو 7000 حالة قد يرجع إلى تعرّض الأمهات للدخان المنبعث من حرائق الغابات في أثناء فترة الحمل4.
وتضيف دومينيتشي أنه ليس بوسعنا كذلك إغفال السياق الاقتصادي والاجتماعي لحالات الإصابة، فنجد أن مَنْ ينتمون إلى مجتمعات تعاني نقص الموارد يُحتَمل بدرجة أكبر التحاقهم بالوظائف التي تقوم على العمل في الأماكن المفتوحة مثل الفلاحة أو أعمال الإنشاء، ومن ثمَّ تزداد بينهم معدلات الإصابة بالأمراض والمشكلات الصحية المرتبطة بذلك. كذلك تقلّ فرصهم في الحصول على الرعاية الطبية الكافية أو اقتناء أجهزة تنقية الهواء. وكل هذه العوامل تجعل حرائق الغابات عبئًا أكبر على المواطنين الملوَّنين ومنخفضي الدخل.
آثار طويلة المدى
من الصعب تقدير الآثار طويلة المدى لتعرَّض البشر للدخان، إذ يتعيَّن أن تستمر الدراسات الطولية التي تتبع الحالة الصحية لمَن تعرضوا للدخان عقودًا من الزمن، وأن تكون قادرة على التمييز بين الآثار الناجمة عن التعرض لعوامل بيئية مختلفة.
وقد سنحت أمام ليزا ميلر، اختصاصية أمراض المناعة التنفسية في جامعة كاليفورنيا ديفيز الأمريكية، في عام 2008، فرصة للتعرف على الآثار طويلة المدى للتعرض للدخان لدى عينة سكانية تخضع لظروف يجري التحكم فيها بدقة، وإن كانت هذه الفرصة قد اقترنت بظروف مؤسفة. كانت ميلر تجري دراسات تتناول أمراض الحساسية والربو على مجموعة من قرَدة المكاك الريسوسي حينما اندلع أحد مواسم الحرائق القاسية في ولاية كاليفورنيا. وقتها كان 25 من مواليد هذه القرَدة قد جرى توطينه في أماكن مفتوحة، وتعرضت القردة عشرة أيام لمستويات تفوق الحد الأقصى المسموح به من التعرض لجسيمات PM2.5 ، والذي أوصت به توجيهات الحكومة الفدرالية. ولا تزال ميلر تراقب حالة القرَدة الصحية، ونسلها، حتى الآن.
لاحظت ميلر أن قرَدة المكاك التي وُلدت خلال عام 2008 تعاني بدرجة أكبر من قصور الاستجابة المناعية وضعف كفاءة الرئتين مقارنة بتلك التي وُلدت خلال العام التالي. وفي دراسة لم تُنشَر بعد، أجرت ميلر وفريقها البحثي مسحًا ضوئيًا لرئات هذه القرَدة، فلاحظوا حدوث تيبس في أنسجتها على نحو قد يجعل هذه الحيوانات تتحرَّك وتتنفس بطريقة مختلفة لتعويض هذا القصور في الوظائف التنفسية.
وتقول ميلر إن هذه البيانات تقدم لنا بعض الإشارات المهمة عن الآثار السامة طويلة المدى التي يتسبب فيها الدخان المتولد عن حرائق الغابات للوظائف المناعية والتنفسية لدى الإنسان، مضيفة: "نحن على يقين بأن هذه الآثار مدمرة".
ولكن ميلر تقر بأن ثمة بعض المحاذير التي يجب وضعها في الاعتبار عند الأخذ بنتائج هذا العمل البحثي. فالتجارب التي أجراها فريقها البحثي جرى التحكم في ظروفها، بالنظر إلى أن الباحثين أمكنهم التأكد من أماكن وجود قردة المكاك طوال الوقت، في حين أن معظم البشر لا يتعرَّضون للدخان في الأماكن المفتوحة لـ24 ساعة، كما أن استجابة البشر للدخان قد تختلف عن استجابة قرَدة المكاك له.
الأماكن المفتوحة والأماكن المغلقة
لا يزال العلماء حتى الآن يسعون إلى الوقوف على مستويات تعرّض الأشخاص للدخان المنبعث من حرائق الغابات في ظروف مختلفة. وقد بدأ باحثون خلال الأعوام السابقة استخدام تقنيات تعلم الآلة في دراسة البيانات المستقاة من عمليات نمذجة قياسات الأرصاد الجوية وبيانات الأقمار الصناعية عالية الدقة بهدف التنبؤ بطبيعة حركة الدخان في الغلاف الجوي. كما تقدّم أجهزة استشعار جودة الهواء المنزلية للباحثين أطنانًا من البيانات الآنية التي تمكّنهم من تتبع مستويات جسيمات PM2.5 بدقة أكبر.
لكن العلماء لم يعد لديهم كثير من مجموعات المقارنة بحسب ما صرَّحت به ميلر. على سبيل المثال، يتنفس ما يزيد على 90% من الأطفال على مستوى العالم هواءً تفوق فيه مستويات جسيمات PM2.5 تلك التي توصي بها منظمة الصحة العالمية (WHO)؛ إذ يشيع تلوث الهواء إلى حد يجعل من الصعب العثور على أناس وأنواع أخرى من الرئيسيات لم يتعرضوا لهواء ملوث، وهو ما يعزّز احتياجنا إلى هذا النوع من الأبحاث.
وتقول ميلنر إن الخطوة التالية والأهم في البحث العلمي تهدف إلى معرفة المواد الكيميائية الموجودة في دخان حرائق الغابات، والتي تجعلها أكثر خطرًا على الأجهزة التنفسية من مصادر التلوث الأخرى، فضلًا عن معرفة طبيعة التفاعلات التي تُسبب تلف الخلايا البشرية بسبب التفاعل بينها وبين هذه الملوِّثات. وهنا، تقول ميلنر: "دأب البشر على استخدام الخشب في التدفئة المنزلية منذ فجر التاريخ، إذًا المشكلة لا تتمثل في عملية إحراق المواد العضوية وحسب، بل في إحراق مواد من صُنع البشر إلى جانب تلك المواد العضوية".
وعلى حد قول هيفت-نيل، ثمة تساؤلات مهمة أخرى تتعلَّق بالكيفية التي يتسلل بها الدخان إلى الأماكن المغلقة. وتجدر الإشارة في ذلك الصدد إلى أن اختصاصيِّ الصحة العامة ينصحون عادة فئات الأشخاص الأكثر عُرضة للمشكلات الصحية بالبقاء داخل الأماكن المغلقة وغلق الأبواب والنوافذ كافة خلال الأيام التي تشهد تلوث الهواء بدرجة كبيرة. لكن تبقى هذه التوصيات "عامة للغاية وغير محددة"، حسبما تصرح جونستون، التي تضيف أن تلك التوصيات لا تساعد كثيرًا في أستراليا، إذ لا تفصل مسافات عازلة كبيرة غالبية المنازل عما حولها.
وقد أوضحت الأبحاث الأولية التي أجريت على منازل بها أجهزة لرصد حالة الهواء في ولاية كاليفورنيا، أنه على الرغم من أن الهواء داخل المنازل حوى نسبة تقل عن نصف تركيز الجسيمات الدقيقة الموجود في الأماكن المفتوحة، فقد اقتربت مستويات جسيمات PM2.5 فيه خلال اشتعال حرائق الغابات من ثلاثة أضعاف مستوياتها العادية، لتفوق بذلك في أغلب الأوقات الحدَ الأقصى المسموح به من التعرّض لهذه الجسيمات خلال فترة 24 ساعة، والذي حدَّدته وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA)5 مع ذلك، فمعدلات تغلغل الدخان إلى داخل المنازل قد تختلف من منزل لآخر، وهو ما جعل هيفت-نيل يحاجج بأهمية تحديد أفضل صورة تُحقق حماية من الهواء الملوث لدى بناء المنازل.
وتعدّ المدارس أماكن حيوية لإجراء الأبحاث عن جودة الهواء، إذ يبدو أن الأطفال بوجه عام أكثر عُرضة للتأُثر سلبًا بالدخان المنبعث عن حرائق الغابات من الأشخاص البالغين. ولهذا، تدرس كولين ريد، اختصاصية جغرافيا الصحة من جامعة كولورادو بولدر الأمريكية، جودة الهواء في المدارس، إذ تعتزم هي وفريقها البحثي دراسة مستويات هذه الجودة داخل مباني المدارس في ولاية كولورادو وخارجها، مقارِنين إيَّاها بتلك الموجودة في منازل التلاميذ.
وتقول رايد إن إرشادات الصحة العامة المعمول بها حاليًا في الولايات المتحدة تترك لإدارة كل منطقة سكنية سلطةَ اتخاذ قرار استمرار المدارس في عملها أو غلقها خلال أحداث تلوث الهواء الشديد، بناءً على ما إذا كانت جودة الهواء أفضل في المدرسة أم في المنزل، مضيفة: "لكن ما من جهة تتوافر لديها فعليًا أي من هذه البيانات".
وتضيف رايد أن هذه الدراسة قد تساعد السلطات المحلية على البتِّ في ما إذا كان من الضروري إقامة «ملاجئ للهواء النظيف» يستطيع الأفراد من خلالها الحصول على الهواء النقي، أم لا. على سبيل المثال، يمكن أن توفّر المدارس الهواء النقي للتلاميذ خلال فترة النهار، ولباقي سكان المنطقة بعد انتهاء فترة الدراسة.
وسوف يساعد توافر مزيد من أجهزة استشعار مستوى جودة الهواء في الأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة على تطبيق هذه التوصيات الصحية، كما ستسهم في تنفيذها متابعة الحالة الصحية لكل فرد، بحسب ما ذكرت برونيكي، لا سيّما متابعة الحالة الصحية لمن يتعرَّضون لجرعات كثيفة من الدخان، مثل رجال الإطفاء المتطوعين ضمن الدراسة التي تجريها. وتتوقع برونيكي أن الأبحاث التي تُجريها حاليًا عن المؤشرات الحيوية للقلب والأوعية الدموية والجهاز المناعي سوف تتيح في المستقبل إجراءَ اختبارات دم بسيطة لرجال الإطفاء وفئات المواطنين الأكثر عُرضة للتضرّر من أدخنة الحرائق، لتحديد ما إذا كان الشخص قد تعرّض على مدار حياته لمستويات خطيرة من الأدخنة، وهو ما سوف يحتّم عليه اتخاذ احتياطات إضافية تُجنِّبه الاستمرار في التعرّض للأدخنة. وتتساءل برونيكي قائلة: "لماذا لا يرتدي الأشخاص الذين يواجهون الدخان بحكم عملهم شاراتٍ خاصة، توضِّح إجمالي مستوى تعرّضهم للدخان، كما يحدث في حالة الفنيين الذين يتعاملون مع الأشعة السينية؟".
لكن جونستون تلفت إلى أنه بغضِّ النظر عن أهمية فهم تعقيدات الكيفية التي يُلحق بها الدخانُ الضررَ بجسم الإنسان، وأهمية معرفة درجة خطورة دخان الحرائق على الأفراد، فالأبحاث العلمية لا تتصدَّى لأصل هذه المشكلة، وهي التغيّر المناخي.
وتعلق جونستون على مسألة تغير المناخ العالمي قائلة: "قد تتوافر لدينا كل الأبحاث التي تُوصي بتناول عقاقير مضادة للالتهاب أو استخدام أحد فلاتر الهواء عالية الكفاءة المرشِّحة للجسيمات (HEPA) والمدعومة حكوميًا، ولكننا سنظل متأخرين عن الوصول إلى حلٍّ إذا لم نعالج المعضلة الأساسية"، وأضافت قائلة: "المسار الذي نسلكه حاليًا مفزع".
ويتوقّع اختصاصيو نمذجة المناخ أن الحرائق التي تفحَّمت بسببها مناطق من كاليفورنيا وروسيا خلال هذا العام لن تكون الأخيرة من نوعها، إذ أوضح تقرير تغيُّر المناخ الصادر عن ولاية كاليفورنيا عام 2018 أن رقعة المناطق التي تلتهمها الحرائق سوف تزداد بنسبة 77% مع نهاية هذا القرن، إذا استمر التزايد في معدلات الانبعاثات الكربونية. ولهذا، يتكاتف الباحثون وصانعو السياسات في بذل مساعٍ حثيثة لمنع هذه السيناريوهات الكارثية.
كما تشير التنبؤات الحالية إلى أن ارتفاع معدَّلات الانبعاثات الكربونية سوف يُثقل كاهل نظم الرعاية الطبية، إذ من المتوقّع إصابة الملايين بقصور في الوظائف التنفسية والمناعية ووظائف القلب والأوعية الدموية، لا سيّما في أوساط فئات السكان الأكثر عُرضة لهذه المخاطر. على سبيل المثال، تُقدَّر التكاليف التي تكبَّدها النظام الصحي في أستراليا بسبب حالات الوفاة المبكرة والحالات المودعة في المستشفيات التي صاحبت أحداث الصيف الأسود هناك بنحو ملياري دولار أسترالي (1.47 مليار دولار أمريكي)، وهو مبلغ أكبر عشر مرات مما بلغته قيمته خلال الأعوام السابقة في البلد.
وفي الوقت ذاته، تستمر مساعي العلماء للوصول إلى مخاطر التعرضّ لأدخنة الحرائق. وقد بدأ العاملون في الخطوط الأمامية لمواجهة الحرائق يُبدون استعدادهم للمشاركة في الأبحاث رغم قلقهم من النتائج التي سوف تُسفر عنها. ولهذا، نجد الملازم كين سميث، قائد عربة النقل التي كانت تقلّ فرقة الإطفاء المتوجهة نحو حريق ديكسي، يتوقف فجأة في أثناء صعوده سلمًا ليفتح باب مقعد السائق في العربة ويخاطب زملاءه قائلًا: "يجب ألا نفكر فيما يحتويه الدخان"، مضيفًا: "لو علمنا ماهية الهواء الذي نتنفَّسه في أثناء أداء مهمتنا، لما استطعنا القيام بها".